محمود عبد الحكيم(*)
لطالما انعكست التشكيلة الاجتماعية غير الحديثة في منطقة الشرق الأوسط على الفضاء السياسي والاقتصادي لمجتمعات المنطقة، في واقع مُراد له التخلف من القوى التي طالما هيمنت وتهيمن على ثرواته وجغرافيته وطبقاته الحاكمة، دخلت منطقة الشرق الأوسط مرحلة ما بعد انكسار حركة التحرر الوطني في العالم العربي، استطاع الاستعمار الناهب الدولي إسقاط الحركة والالتفاف عليها بوسائل ومسالك، كان ولم يزل أبرزها رعاية وتسييد التناقضات الثانوية بين شعوب المنطقة وحكامها، تناقضات كانت في طور الخفوت، وإن لم تختفِ، خلال فعل التحرر الوطني وزخمه، وغابت نسبياً بفعل مشروع عام استطاع استيعابها والارتقاء بها لصالح مواجهة عدو مشترك وإقامة تعاونية إقليمية صاعدة، بمرور الأعوام طفت التناقضات الثانوية على السطح وأصبح لها مفاعيل أكبر في تشكيل الواقع، مع ما أدرك شعوب المنطقة ووعيها ومصالحها من تفكيك وسقوط جائا لصالح الاستعمار وأدواته التي اعتاشت عليهما.
في إطار صراع مُستَدعى من التاريخ وقائم في شكله الحالي على تخلف منطقة الشرق الأوسط، تخلف إقتصادي وإجتماعي وسياسي، جاء التناقض الثانوي بين مكوّنات المنطقة الدينية والمذهبية والعرقية وفي القلب منه التباين بين أهل السنّة والجماعة وغيرهم، إنقسامات كتلك لها حجم وتأثير طبيعيان ومفهومان في تلك المنطقة تحديداً، إذ جاء المسار التاريخي لها على عكس القارة الأوروبية مثلاً، التي استطاعت، وفقاً للفارق في التطور المادي والعلمي والتقدم الذي كثيراً ما اعتمد على فعل الاستعمار ونهب فوائض أمم أخرى، إقامة منظومة اقتصادية موحّدة وسوق مشتركة قامت على المصلحة المشتركة، وكفلت خلق هوية عملية موحّدة على أساس الجغرافيا ووحدة المصير رغم التباين الثقافي والعرقي والمذهبي، ووجد ذلك بدوره أثره الإيجابي على واقع حياة الشعوب الأوروبية، فجاءت التناقضات والصراعات السياسية البينية هناك أكثر ارتباطاً بالمصالح الواقعية وتحقيقها، ومنقطعة الصلة – تقريباً - بالانتمائات والخلفيات الدينية والمذهبية، أي التناقضات الثانوية، إلا في الحدود الطبيعية التي يحكم بها التاريخ بما له من أثر ممتد في حاضر ثري وحديث ومتطور.
وفقاً لهذا المشهد، تقع الكتلة السكانية التاريخية الإسلامية "السنّية" مذهباً ذات الأغلبية في المنطقة العربية والشرق الأوسط، والتي شهدت تحولاً كبيراً في القوى التي تمثلها بقيام حزمة من المتغيرات على رأسها ما سُمي بـ"الثورة العربية الكبرى"، وسقوط الإمبراطورية العثمانية وتقسيم المنطقة العربية على يد الاستعمار الأوروبي، ثم استقرار الأمر في الجزيرة العربية إلى حكم آل سعود ودولتهم، وقيام إمارة شرق الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية لاحقاً) والمملكة العراقية الهاشمية، مع بقاء مصر تحت الاحتلال البريطاني، وهي تكتل سكاني سنّي ضخم في المنطقة هو الأكبر حالياً وكان أكبر من مثيله في تركيا، قيادة الإمبراطورية العثمانية، في مرحلة سقوط الإمبراطورية.
في السطور التالية سنحاول رصد واقع القوى والكيانات التي تمثل سنّة العالم العربي، في ضوء السنوات الست الماضية التي تلاطمت خلالها الكتل الاجتماعية السكانية في المنطقة في صراعات على المصالح المتنوعة، وعلى الجدارة بتمثيل وقيادة كتل مَحَلية أصغر لكتل إقليمية أكبر عابرة للأوطان.
مملكة آل سعود
بات واضحاً أن المال السعودي، الذي طالما أعطى للمملكة دوراً إقليمياً فاعلاً بعد سقوط مشروع التحرر العربي، لم يعد فاعلاً وكافياً لضمان تمثيل المملكة لسنّة المنطقة ومصالحهم، ولا سيما مع ارتباطها الوظيفي بمنظومة الغرب الاستعماري الاقتصادية والسياسية المتناقضة رئيسياً مع مصالح أغلبية سكان المنطقة، ارتباط لم يسهم واقعياً في تمثيل مصالح عموم السنّة مع امتزاجه بقوة الايديولوجيا الدينية والنفوذ المعنوي لبلاد الحرمين الشريفين، وإنما عملت سياساته ونتائجه على خصومة وإقصاء مركّب ليس فقط للمكوّنات الأخرى غير السنّية، بل للمكوّنات الفقهية والعقائدية المختلفة عن الوهابية داخل أهل السنة والجماعة أنفسهم، صحيح أن امتداداً سياسياً وثقافياً سعودياً لم يزل قائماً حتى الآن بقوة خارج امة العرب، حيث يضم العالم أكثر من مليار ونصف مليار مسلم، إلا أن العديد من العوامل التاريخية أتاحت لقوى "سنيّة" مغايرة الصعود والاتساع في منطقة الشرق الأوسط، لتنافس بذلك المملكة التي فشلت برجعيتها في الإجابة عن سؤال التحديث والتقدم، وباستبدادها والطابع الإقطاعي الريعي لاقتصادها في الإجابة عن سؤال تقسيم السلطة والثروة، وبخيانتها ودورها الوظيفي للغرب الاستعماري في الإجابة عن سؤال القضية المركزية في فلسطين المحتلة، وبذلك رغم سقوط الخصوم التقليديين للمملكة في الإقليم ومشاريعهم واحداً تلو الآخر، من جمال عبد الناصر (بمشروعه في مصر القوة السنيّة الأكبر) إلى المقاومة الوطنية الفلسطينية المسلحة إلى عموم الحركة اليسارية والتقدمية العربية، سار الخط البياني لقوة المملكة ونفوذها إلى الأسفل إنطلاقاً من نقطة احتضانها للقواعد العسكرية الأمريكية، أي عكس ما كان مرجوّاً بهذه الخطوة التي طمحت المملكة بأن تصعّد دورها الإقليمي في مواجهة الدولة العراقية، التي دعمتها المملكة بثقلها مع أمريكا قبل ذلك لتشن الحرب على الدولة الإيرانية الناشئة وقت الحرب العراقية الإيرانية، وما تلا ذلك من مشروع تمدد سطحي ومبتسَر طمح إليه نظام صدام حسين ليجعل العراق، التي حكمتها الأقلية السنيّة، كياناً قادراً على تمثيل كل العرب وليس سنّة المنطقة فقط في مواجهة قوة "شيعية" صاعدة.
بإتمام الاحتلال الأمريكي للعراق الذي شجعته المملكة طمحت الأخيرة، بفعل وضمانة من أمريكا، في إقامة نظام يكفل مصالحها هناك ويكبح الصعود الإيراني الذي شمل دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية ، فإذا بالديموغرافيا العراقية تسلك مسلكاً مغايراً وطبيعياً تمثّل في قيام المقاومة المسلحة العراقية ضد الاحتلال باختلاف توجهاتها بدعم سوري، وبراجماتية إيرانية استطاعت دعم مقاومة الإحتلال بيد واحتواء آثاره والتوافق معه حول كيان الدولة العراقية ومؤسساتها الجديدة بيد أخرى، فكان مشروع الحرب الأهلية الذي أطلقته المملكة هناك بأذرعها الوهابية المسلحة كتعبير عن رفضها لمعادلة الحكم الجديدة في العراق، مشروع اكتمل سقوطه مؤخراً بحالة من التوحد الوطني أطلقها وجود "داعش"، الذي دعمت المملكة "دولته" في العراق أيضاً منذ بذوره الاولى أي "الدولة الإسلامية في العراق" التي وُلدت عام 2006 على يد تنظيم القاعدة، الذي تفرغ لارتكاب المجازر في حق العراقيين الشيعة بعد فترة قصيرة من العمل في مقاومة الاحتلال الأمريكي.
على أي حال واجه المشروع التاريخي السعودي لتمثيل سنّة المنطقة منعطفاً كبيراً بإندلاع الربيع العربي، الذي حاولت المملكة استثماره في سوريا في إطار نفس المشروع فواجهت فشلاً ذريعاً انتهى بها إلى أزمة مالية خلال العامين الماضيين، وحمل الواقع اللبناني الجديد ارتدادات ذلك بانحسار القوى اللبنانية التي تمثل المصالح السعودية، وليس مصالح سنّة لبنان، لصالح القوى التي آثرت مواجهة مشروع إسقاط سوريا أو تقسيمها منحازة بذلك لمصالح كافة طوائف المنطقة، التي كان سيؤدي بها نجاح المشروع إلى اقتتال وجودي شامل لا يُبقي ولا يذر.
يتربع آل سعود على قمة هرم الطبقة الحاكمة لمملكتهم في نظام أبوي قَرابي محض، وهو ليس فقط لا يعرف أي قدر من التمثيل السياسي لشعب شبه الجزيرة العربية الواقع تحت حكمهم، ومصالحه وحقه في السلطة والثروة، بل أيضاً يرعى بناء كامل من الرجعية الإجتماعية والسياسية والثقافية الكاملة، أسهمت وتسهم في خلق حالة ممتدة من التخلف الكامل لا تخفف منها الرفاهية المادية الظاهرة، المملكة – مثلاً – لا تتمتع بأي إنتاج صناعي معتبر إلا بمنتجات بالغة الهامشية، وتعتمد إقتصادياً على منظومة "ريع" مالي قائمة على النفط، وتتسم تشكيلتها الإجتماعية وتكوينها السكاني بإعتمادية ضخمة على الأجانب في كافة الأعمال والمجالات، من هنا يصعب الحديث أصلاً عن مجتمع "مكتمل" يتمتع بالقوة والتماسك الكافيين من أجل مشروع كبير كتمثيل المسلمين السنّة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، فضلاً عن تمثيل هؤلاء على مستوى العالم.
صحيح أن ثمة نجاحات تحققها الوهابية، الذراع الأيديولوجي والثقافي للمملكة، في آسيا تحديداً، حيث وجدت الوهابية مرتعاً خصباً في اندونيسيا وماليزيا بالمال والدين والجمعيات "الخيرية" والدينية رغم التقدم الصناعي لتلك المجتمعات، وتجاوُز بنائها المادي الملموس للبناء الذهني والفكري القَبَلي الذي تعمل عقلية الدولة السعودية به بطبيعتها، إلا أن مخاصمة الوهابية فكرياً للعقل ومخاصمة مملكة آل سعود عملياً للاستقلال والتحرر المادي والفكري للإنسان دائماً ما يُسهمان في سقوط الإتجاه السعودي للتسيُد والسيطرة، من الصعب إجمالاً أن يمثل آل سعود "الإسلام" في ظل اضطهادهم في الداخل السعودي لآلاف من المسلمين (الآسيويين والأفارقة والعرب) على أساس الطبقة أو الوطن أو العرق أو اللون، ليس فقط لأن القيم الجوهرية للإسلام، كمثيلتها لكافة الأديان، تفيد عكس ذلك، ولكن أيضاً وفي المقام الأول لأنه يستحيل على قوة أن تنجح فعلاً في تمثيل مصالح الناس بينما تقوم علاقتها بهم على الإستغلال والتمييز، صحيح أن حالة التمييز في الداخل السعودي ليست فجّة وتكمن تحت خطاب "الأخوة الإسلامية" بالحجم المعنوي للمملكة كراعٍ للحرمين الشريفين، إلا أن الواقع العملي بما يطرحه من حصر للأجانب من جنسيات محددة وفقرائهم في الأعمال اليدوية والشاقة، في مجتمع تحتقر ثقافته تلك الأعمال وتميّز بينها وبين العمل الذهني، يظل أكثر فاعلية من أي أفكار جاهزة أو مشاعر طيبة مصدرها الوجدان لا الواقع.
على جانب آخر يُعَد خطاب الفتنة المذهبية في الإسلام في حد ذاته، الذي نسجته مملكة آل سعود من خيوط التاريخ وترعاه، أبرز المعوقات أمام شعوب منطقة الشرق الأوسط تحديداً في سبيل وعيها بخطورة وتدميرية آل سعود وسياساتهم، إذ نجح آل سعود طوال سنوات من الإنفاق الضخم على مؤسسات دينية وتعليمية وسياسية و"خيرية" في تسييد خطاب التكفير المذهبي بين سكان تلك المنطقة، وفي ذات الإطار تم – إلى أقصى حد ممكن – استخدام الوكلاء المَحليين لوهابية آل سعود في كل بلد أو قطاع جزئي من المنطقة على حدة، لتجتاح انطباعات مقوّلبة وجاهزة وأفكار مشوّهة أذهان ملايين المسلمين السنّة من تلك الشعوب تفيد جميعها شيطنة مطلقة للمذاهب الأخرى، وتصاعد هذا الشحن، الذي شمل استخدام الإعلام الفضائي المرئي، وصولاً إلى طبع الذهنية الوهابية وعي أصحاب المذهب السنّي في المنطقة بطابعها، لتصبح باقي المذاهب في وعي الغالبية من هؤلاء ليست فقط مذاهب باطلة ومن الواجب نفيّها ومقاطعة أهلها، بل أيضاً شركية وكُفرية ويمثل مجرد وجودها، ومعتنقيها، خطراً وجودياً على الإسلام نفسه، ولم يكن كل ما سبق غريباً عن التناول الوهابي للإسلام فهو طرحه الخاص المعتاد، إنما ما استجد هو مبادرة آل سعود إلى استخدام التكفير العلني ضد مذاهب الدين الإسلامي نفسه وليس ضد المبادئ والأفكار الوطنية والقومية، كما فعلوا من قبل في مواجهة مشروع التحرر الوطني العربي الذي هدد صعوده وتكتل شعوب المنطقة خلفه مصالحهم، فحاربوه بإستماته يكشف التاريخ وتوالي إنكشاف الأدلة والروايات عن كثافتها وتنوع مفرداتها.
الجدير بالذكر أن العلاقة – مثلاً – بين آل سعود وشاه إيران محمد رضا بهلوي كانت ممتازة وكان شيعياً جعفرياً، كما دعمت المملكة الإمام محمد البدر حميد الدين في مواجهة الثورة الجمهورية عليه وكان زيدياً، في حين وقفت المملكة على عداء حاد مع نظام عبد الناصر ومصر الناصرية بكتلتها "السنّية" التاريخية العتيدة ومؤسسة الأزهر العريقة في تمثيل المذهب السنّي، من هنا فإن الصراع التاريخي هذا في المنطقة سياسي واقتصادي الجوهر بالفعل ولكن طالما نجح آل سعود في إضفاء الصبغة الدينية والمذهبية عليه وفق حاجتهم ومصالحهم الخاصة، صحيح أن أحد ملامح تناقضهم مع مصر الناصرية كان رغبتهم في تمثيل سنّة المنطقة، بثقلهم الديني والمعنوي القائم على رعاية بيت الله ومدينة الرسول، إلا أن رغبتهم تلك لم تتحول في الحقيقة إلى واقع ملموس إلا بموازاة تزييفهم لطبيعة الصراع في أذهان سنّة المنطقة، ونجاحهم في إضفاء الصبغة الدينية على تناقضاتهم مع أعدائهم بإختلاف هؤلاء الأعداء، حتى أصبح الكيان الصهيوني في نظر وقول آل سعود مؤخراً في محل أهل الكتاب ومن المشروع الإحسان إليه وإقامة المعاهدات معه، في حين أن المقاومة الوطنية اللبنانية خطر داهم يجب سحقه، كما شجعوا الكيان نفسه وأمريكا عام 2006، لأنها كيان شيعي أي "أخطر على الإسلام والمسلمين من اليهود" كما دأبت دعايتهم المكثفة على الترديد، وكل ما في الأمر هو التقاء مصالح آل سعود مع الكيان الصهيوني وإنفصالها عن أي قوة معادية له وللهيمنة الأمريكية، ولو كانت سنّية كحركة الجهاد الإسلامي أو علمانية وطنية عروبية كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والخلاصة أن مملكة آل سعود استخدمت التزييف وشراء الذمم والتدين السلبي المخرب لتمثّل، عن باطل واضح، المسلمين السنّة في المنطقة، دون أن يجدي ذلك نفعاً حتى الآن، في ظل كون المملكة قاعدة وظيفية للاستعمار الأمريكي ومصدر لثروته وأداة ومرتكَز لهيمنته على المنطقة العربية.
تركيا
في ذات الإطار عن تركيا، الأمة ذات الكتلة السكانية الكبيرة والثقل الجيو سياسي والتاريخي التقليدي في المنطقة، يصعب فصل طموح النظام هناك واتجاهه خلال سنوات لتمثيل سنّة المنطقة عن صعود الإخوان المسلمين في مجتمعها وتولي حزبهم مقاليد الحكم، قدّم حكم الإخوان في تركيا نموذجاً مغايراً أقرب للحداثة من النموذج السعودي إذ قام في تشكيلة إجتماعية أكثر تطوراً، ومجتمع ودولة أنجزا قدراً من التقدم الصناعي والكفاية الإقتصادية ذات الطابع الإنتاجي لا "الريعي" على غرار ما يفرزه النفط السعودي، مع ارتباط تاريخي بمصالح الغرب الاستعماري إذ كانت تركيا على رأس حلف بغداد الذي أقامته أمريكا في خمسينات القرن الماضي وكلّفته، مكوّناً من العراق الملكي وإيران الشاه وباكستان وبريطانيا، بمواجهة المد الجمهوري والتحرري الوطني الذي اجتاح المنطقة متوازياً مع تمدد ماركسي عالمي، على أي حال رحب الحكم الإخواني بالقواعد العسكرية القائمة منذ عقود لحلف الناتو وأمريكا على الأراضي التركية، والذين يكفلون تواجداً استراتيجياً لهما في نقطة تتوسط أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، إندماجاً مع مصالح الغرب وهيمنته لا مع مصالح "أهل السنّة" التي تتضمن – بديهياً – ألا تكون رؤوسهم تحت غطاء جوي عسكري أوروبي وأمريكي على مدار الساعة.
مع تمتع الإخوان (ككتلة اجتماعية تاريخية) بانتشار جماهيري كبير في المحيط العربي بأكمله، جاء الربيع العربي كفرصة سانحة لتمدد تركي في المنطقة يسعى إلى تمثيل السنّة بشكل لا يناصب إيران العداء جذرياً، وهي قوة صاعدة بقدر تركيا وتُنافسها وإن كانت أكثر استقلالاً في اقتصادها وسياستها وإدارة مواردها، ولا يعادي الغرب أصلاً بل في تحالف وثيق معه يشمل علاقات عميقة (إقتصادية وعسكرية وفي البحث العلمي) مع الكيان الصهيوني أبرز أدواته في المنطقة، من هنا جاء الإنكشاف سريعاً لخطاب تركيا وسياساتها بدعم حماس المقاومة و"تحرير القدس"، سياسات مؤقتة ولم تتعدَ الهامشية جاءت في إطار استقطاب معنوي لسنّة المنطقة نحو مشروع الإخوان، ولم تصب في خانة المقاومة المسلحة على وجه الإطلاق بل انصبت على دعم مشروع حماس في الداخل الفلسطيني نفسه وإنفرادها بغزة ومن ثم توليها المسؤولية الثقيلة للقطاع، وظل "الخطاب" التركي الزاعق باللسان فقط عن حقوق الشعب الفلسطيني مترافقاً مع دعم مشاريع فرعية وحكومات مستنسَخة تركياً ولكن أضعف وأصغر في مصر وتونس، قدمت نفس السياسات عملياً ولم تفلح في تمثيل مصالح شعوبها أمام قوى الهيمنة بل تماهت معها، في بلاد لم تزل تحتاج إلى الكثير مما أنجزته تركيا بداخلها في السابق على المستوى العام ولن تكفل لها التبعية في الشروط والعوامل الحالية أي نهضة حقيقية، الجدير بالذكر أن مصر في هذا الإطار تم ضرب وإسقاط وتصفية مشروعها للتحديث منذ عقود، وصولاً إلى تراجعها الكبير وكونها الآن كيان مثقل بالإنفجار السكاني وتهالك البناء وفقدان التحكم في الموارد.
على أي حال كان الدور التركي الرائد في الحرب على سوريا الأكثر جوهرية تقريباً من جميع أطراف الحرب على الأقل في إطلاق شرارة البداية لها، فمن الأراضي التركية دخلت العصابات الإرهابية وكل أنواع الدعم لها من باقي الأطراف، طمعاً في تمدد تركي يضم سنّة سوريا بإسقاط دولتها أو تقسيمها، ويطوّق الحضور الكردي، السنّي في غالبيته المطلقة، في شمالها وشمال العراق، وهو المعادي تقليدياً للدولة التركية إذ لم تستطع القومية والعرقية التركية استيعابه على مر السنوات رغم قطع تلك الدولة، كما سبق القول، شوط جيد في مسار الدولة الحديثة التي يُفترض فيها استيعاب واحتواء المكوّنات الإجتماعية المتباينة داخل وعاء جامع.
قطـر
بعد إنقلاب حمد بن خليفة آل ثاني على والده عام 1995، تأسست قناة الجزيرة الفضائية (الرسمية للإمارة) في العام التالي في مساحة زمنية شهدت بداية صعود دور الإعلام المرئي الفضائي وإتساع مظلته، وقدمت خطاباً: "ليبرالياً" غريباً عن سياق مشيخات الخليج النفطية التي لم تشهد عملية إنتخابية واحدة في تاريخها، ونقدياً في السياسة رافعاً لشعار ومبدأ "العروبة" بشكل يبدو ثورياً في الظاهر، لكنه يقف عند نفس سقف تلك المشيخة ذات الدور الوظيفي لأمريكا والغرب بقاعدة عسكرية أمريكية ضخمة، وبذلك الوجه خاضت قطر مشروعها، في مرحلته الإعلامية، متبنيةً إنتفاضة الأقصى في فلسطين المحتلة والحرب على العراق وإحتلاله وعدوان 2006 على لبنان، وبصفة عامة مهّد ذلك للسعي القطري لتمثيل سنّة المنطقة وهو دور أكبر كثيراً من الحجم الطبيعي لقطر.
بإنطلاق الربيع العربي وفي جانب من قيادته الإخوان المسلمون، سنحت الفرصة لقطر بتشكيل دور إقليمي خاص بها تجمع فيه بين وجهين: الأول كونها مشيخة عائلية خليجية نفطية ذات دور وظيفي في ارتكاز القوة العسكرية الأمريكية، وتزويد الغرب بالنفط ورهْن احتياطات نفطها لقوة النظام العالمي وسوقه ومديريه، والثاني كونها منظومة سياسية تسعى للعب دور قيادي عابر لحدودها بعنوان "عربي إسلامي" يسعى لوراثة النفوذين المصري والسعودي ولحل محلهما، باستخدام الإخوان المسلمين كأداة، ولا يمانع في نقل ظاهرة "الربيع" إلى مملكة آل سعود نفسها، التي تسيطر على البيت الخليجي بيد حديدية قديمة لا يمكن منافستها على تمثيل سنّة المنطقة وهي على قوتها النسبية تلك، ولاستقطاب الغرب نحو مشروع كهذا جاءت العلاقات القطرية الصهيونية خياراً طبيعياً وسابقاً على عام 2011، وكما احتضنت المشيخة حماس سياسياً ومالياً فتحت الطريق أيضاً لحل تصفوي للقضية المركزية في فلسطين، تذهب له الشعوب والأنظمة العربية برعاية قطرية، ويأتي في سياق “الإصلاح” و”الديمقراطية” والتعايش السلمي وغيرها من والعناوين التي تبنتها قطر، مع استقدامها لآلاف من المدربين والإعلاميين والمثقفين انخرطوا في تقديم دورات تدريبية في الديمقراطية وحقوق الإنسان لشباب عربي، وشغّلوا العشرات من المنابر الإعلامية للعمل على تلك الأجندة.
على أي حال قد لا يعرف الكثيرون أن قطر كانت الطرف المبادر والأسبق للمساهمة الفاعلة في تخريب سوريا، تمويلا وتسليحا وتجنيدا، مع تركيا المنفذ الحدودي الرسمي لقوى الإرهاب هناك، ومثّل الإخوان في الربيع العربي خياراً ذهبياً لدويلة كقطر لا تمتلك من أسباب القوة سوى المال والإعلام، فقدموا لها ظهيراً شعبياً هو انعكاس لتصعيدها لدورهم، وتعبير عن محاولتها التي فشلت لتمثيل سنّة المنطقة والتي تُقام المحاولات الآن لإعادة بلوّرتها بالتعاون القطري التركي، بعد المواجهة الخليجية القطرية التي تلت رحيل إدارة اوباما المنفتحة على الإخوان وقطر، فكان التوقيت المنطقي لحسم مملكة آل سعود مشكلتها مع مشروع الدور الإقليمي الخاص – الذاتي لقطر، وما شمله من اندماج مع الإخوان الذين تصاعد دورهم بالربيع العربي على حساب الدور السعودي.
مصر
وفقاً للعديد من العوامل تتمتع مصر بثقل كبير في معادلة تمثيل "سنّة المنطقة" ومصالحهم، فهي دولة أمة (دولة قومية) ذات كتلة سكانية ضخمة وموقع جغرافي فائق الأهمية وصفته الأغلبية من مفكري الجغرافيا السياسية، وليس فقط جمال حمدان، بالعبقرية والتميز البالغ، لم تكن مصادفة إذن أن تكون مصر مصدراً لحركتين تاريخيتين هما الأقوى في العصر الحديث لجمع المنطقة في مشروع وحدة سياسية إقليمية، ليس فقط بكونها "الكتلة السنّية" الأكبر في محيط غير متطور وبالتالي لم يتجاوز – وقت المشروعين وحتى الآن - تناقضات "القَرابية" والمذهبية، وإنما وفقاً لعوامل جيوسياسية عديدة مكّنتها من إطلاق مشروع دولة محمد علي في القرن التاسع عشر، حيث سعت مصر إلى إقامة وحدة إقليمية تستوعب شعوب المنطقة تحت قيادتها وذات علاقات نديّة مع إمبراطوريات أوروبا، دولة كبيرة تتحكم في مواردها وتتجه للتحديث بل والتمدد للدفاع عن مجالها الحيوي ومصالحها الاستراتيجية، وتتمتع بالفُتوة والقدرة على تنويع الخيارات ببِنية واتجاه يجعلها أخطر على إمبراطوريات أوروبا من وضع خصمها الأضعف المتهالك أي الدولة العثمانية، على أي حال سقط المشروع وأجهضته أوروبا الاستعمار، وجاء التاريخ بمشروع لاحق في القرن العشرين بيد مجموعة من ضباط الجيش المصري، الامتداد الطبيعي لجيش الدولة المصرية الحديثة المُنشأ علوياً، واستهدف مشروع مصر الناصرية إقامة تكتل إقليمي لشعوب وثروات وأسواق المنطقة بأفق مشابه لمثيله لدى المشروع العلوي، وإن تمايز المشروع الناصري بتبنيه لظهير هوياتي جامع هو "العروبة"، بعد أن شهد الربع الأول من القرن العشرين صعود فكري لأيديولوجية القومية العربية جاء انعكاساً لوقوع شعوب العرب تحت الاستعمار، واستجابةً لضرورة إيجاد قاعدة تجتمع عليها تلك الشعوب ووفقاً لها في مواجهة عدوها الرئيسي.
بحلول عام 1971 اتجهت الدولة المصرية اتجاهاً معاكساً ترك أثره بمرور السنوات على بِنية الدولة ذاتها، وعملت قيادتها على الإنسحاب من الحجم الطبيعي لمصر والدور العضوي الملازم لها بحكم مجالها الحيوي الكبير، في تنازل جاء مجانياً تماماً عن المصالح العليا للبلاد وجنى شعبها أثره خلال عقود من التراجع والإنحسار، فشهدت ثمانينات وتسعينات القرن الماضي صعوداً سعودياً طمُح لتمثيل سنّة المنطقة بوراثة الدور المصري لكن بافق مغاير تماما ًبدلاً عن الإرتقاء بمسار كهذا، أي تمثيل مصالح تكتل المسلمين السنّة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، إلى أفق أرحب يضم السكان العرب وغير العرب في مواجهة الإستعمار الإقتصادي، ونحو تكتل أوسع يقيم تنمية شعبية وتقدم اجتماعي ومنظومة اقتصادية تشاركية تبادلية بين شعوب المنطقة ودولها معتمدة على الذات بقدر المُستطاع، الجدير بالذكر أن المشروع الإقليمي الوحدوي المصري استوعب، رغم صبغته العروبية الواضحة، أطيافاً عرقية من غير العرب مثل الكرد والأرمن إذ كما سبق القول نجح في تمثيل مصالحهم كشعوب منسحقة تحت نهب وإستغلال وهيمنة الإستعمار الأجنبي من خارج المنطقة، ونجح المشروع في الإجابة على "سؤال اللحظة" وقتها وهو: كيف يمكن لهذا الإقليم النهوض المادي العملي وما هي معوّقات هذا النهوض وشروط تحقيقه؟
على عكس ذلك، عمدت مملكة آل سعود إلى إقامة مصالح طبقتها الحاكمة الوكيلة عن المصالح الأمريكية تحديداً، بناءً على الإتفاق المؤسِس للعلاقة العضوية تلك – إتفاق كوينسي الذي تم في البحيرات المرة بمصر على متن الطرّاد الحربي الأمريكي الذي يحمل ذات الإسم، بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي وقتذاك فرانكلين روزفلت، وجاء انحسار المد العملي والفكري للتحرر الوطني والقومي والإستقلال الإقتصادي والسياسي في المحيط العربي – السنّي كاملاً بعودة واقع التبعية الكاملة، وترسيخ وضع ثروات العرب، وفي مقدمتها النفط الثمين، تحت تصرف المستعمر كما أسس الإتفاق السابق ذكره، وذلك بموازاة سقوط "البديل" الإقليمي الذي شرعت مصر في تشكيله لفترة من الزمن مثّلت متنفساً للشعوب أتاح لها تحديد السؤال التاريخي للمرحلة، وطبيعة المعركة المطلوب خوضها، وأطراف تلك المعركة من أصدقاء وحلفاء وخصوم وأعداء، وكما كانت القومية العربية الجامعة ظهيراً أيديولوجيا لمشروع التحرر الوطني العربي المُنشأ مصرياً، جاءت الوهابية الإسلامية غطاءً أيديولوجياً لمشروع المملكة على أنقاض مشروع التحرر، مع سيادة أعمال وتشكيلات "الريع" في الإقتصاد عوضاً عن "الإنتاج"، ودعم عنوان الإستثمار الأجنبي الذي كان ولم يزل قشرة تغطي فعل نهب إقتصادي واضح ومنظّم لثروات المنطقة، وصولاً إلى المصير الذي لاقاه نفط العراق وليبيا والموانئ الإستراتيجية لليمن وشرق إفريقيا، والأردن بتحوّلها من مرتكز للمقاومة الوطنية الفلسطينية المسلحة إلى مصدر نهب للثروات المائية لصالح الكيان الصهيوني ومرتكز أمني وإقتصادي له وللولايات المتحدة، وما خُطط استعمارياً للبنان منذ الستينات حتى أول الثمانينات ولسوريا خلال العقد الأخير، من أن تكون الأولى رأس حربة أمريكي في مواجهة مصر الناصرية وتحييد الفلسطينيين بها أو سحق قوى المقاومة فيها، وأن تكون الثانية منطلقاً كبيراً لتفكيك الدول الكبرى في المنطقة إلى كيانات مبتسَرة على أسس طائفية وعرقية.
في قلب المسألة وداخل العقل السياسي المصري الحاكم حالياً، بصفته امتداداً طبيعياً لنظام سياسي واحد منذ 1971 حتى اللحظة، يقبع "الهاجس الإيراني" بناءً على تمدد إيراني حقيقي وطبيعي، جاء في أحد جوانبه – أصلاً – كأحد إنعكاسات التراجع المصري الكبير والمتطاول، بإرتهان قرار وسياسة مصر للولايات المتحدة، الطرف الأصيل، ثم لمملكة آل سعود، الوكيل عن الأصيل، قام هذا الهاجس بفعل قيامه لدى السعودية والخليج لا أكثر، فليس ثمة وقائع محددة على الأرض يمكن أن نقول إنها تمثل تهديدا إيرانيا للأمن القومي المصري، إيران مثلا لم تمتنع عن تسليم مصر شحنة نفطية هائلة عقابا على موقف سياسي لها ولم تسعَ إلى حيازة نفوذ وقوة في الداخل المصري، ولم تطلب السيطرة على موقع حيوي استراتيجي من المجال البحري المصري، كتيران وصنافير المصريتين، بل على العكس تشير متانة العلاقات المصرية مع الإدارة العراقية الحالية إلى جهوزية حقيقية موجودة بالفعل لضمان الأمن القومي العربي والمصري في جوار الأمن القومي الإيراني، إلا أنه ثمة شواهد واضحة جداً تفيد بعزف الإدارة المصرية على نفس أنغام الإستعمار الأمريكي والعِمالة السعودية بأن صراعات المنطقة إن لم تكن دينية أو طائفية، فهي عِرقية تتمثل في صراع عربي عثماني وعربي فارسي، وعلى ذلك فثمة ضرورة لدى تلك الإدارة، غامضة تماماً وساقطة بديهياً إذا ما نوقِشت علمياً، بأن يكون تمثيل مصر لسنّة المنطقة هو تذيُلها للسياسات الأمريكية والصهيونية والسعودية في كل الميادين والساحات، ما عدا سوريا بنسبة ضئيلة، والإنحياز للمضمون الأمريكي في "مكافحة الإرهاب" أي لملمة ما خلّفته جرائم مملكة آل سعود وقطر وتركياً سوياً وتحجيمه لإستخدامه، بالإضافة إلى معاداة مقاومة الإحتلال الصهيوني بوصفها "إرهاباً" مماثلاً، ذلك بالتضاد مع ما يطرحه محور المقاومة من مضمون لهذا المصطلح وهو القضاء التام على الإرهاب التكفيري، ومواجهة قوى الإستعمار ووكلاءه التي صنعته والقوة الصهيونية التي أفادت منه.
2017.08.23
-------------
(*)محمود عبد الحكيم: كاتب مصري.
الزيارات: 2431