نـبـيـل الـحـمـوي(*)
تمحور الشغل الشاغل لمحمد علي حول مسألتين: الاستقلال والتوسّع، انطلاقًا من مصالحه ومطامعه.
برّرت طموحات محمد علي الشخصية له التفريط بمصير السلطنة المتعلّق بها، والتفريط بمصالح السكان في مصر وبلاد الشام، وذلك عندما فتح أبوابها أمام النفوذ الأوروبي في سبيل بناء دولته المنشودة، جاعلًا صراعه مع السلطان لا مع الأوروبيين.
حاول الأوروبيون تصوير طموحات محمد علي على أنها أحد أوجه النزاع بين الأتراك والعرب، فكانت تصريحات المبعوثين والدبلوماسيين الأوروبيين التي تشير إلى ميول إبراهيم باشا العربية ونوايا والده الرامية لبناء دولةٍ عربيةٍ، لا تهدف – في جوهرها – إلى تحريض محمد علي على بناء دولةٍ عربيةٍ بقدر ما تهدف إلى إضعاف السلطان العثماني.
اعتبر بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا، أن تأليف مملكة عربية من قبل محمد علي هو مشروع جليل الشأن؛ إذ كانت بريطانيا تروّج لقيام مملكة عربية، وتشجّع محمد علي بطريقةٍ غير مباشرةٍ على احتلال اليمن والحجاز وبلاد الشام، الأمر الذي يصبّ في نهاية المطاف في تحقيق مصالح بريطانيا التجارية في المنطقة.
في عهده، لم يعبأ محمد علي باشا برسم سياسةٍ جمركيةٍ سليمةٍ تؤمّن الحماية للصناعات المحلية ومنتجاتها. فأخذت الطوائف الحِرَفية، التي كانت تشكل مظهرًا حضاريًا متقدّمًا نسبيًا سواء من حيث جودة منتجاتها أو من حيث تنظيمها، بالتراجع والتلاشي شيئًا فشيئًا؛ ففقد عشرة آلاف عاملٍ عملهم في عام 1833 بعد تدفّق الأقمشة الإنكليزية على المدن الشامية كدمشق وحلب وطرابلس وبيروت، مما أدّى إلى إفلاس الكثير من الحِرفيين وإلى استحالة تصنيع الحرير محليًا بعد التناقص الكبير في عدد أنوال النسيج المستخدمة نتيجةً لشيوع تصدير الحرير إلى الخارج كمادّة خام، الأمر الذي نجمت زيادة بؤس مزارعي أشجار التوت ومربي دودة القز.
ومما ساعد على انتشار المنتجات الأوروبية وإقبال السكان عليها، هي جودة هذه المنتجات، ورخص أسعارها، وسعي الرأسمالية الأوروبية إلى تقليد المنسوجات المحلية، فقد قلّدت ليون منسوجات حلب، وقلّدت سويسرا الكتّان الدمشقي.
حين توجّهت جيوش محمد علي باشا شرقًا نحو بلاد الشام في الرابع من شهر تشرين الأوّل عام 1831، وقفت الدول الأوروبية من هذه المسألة مواقف مختلفة عبّرت من خلالها عن تناقض مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة؛ فقد شجّعت فرنسا محمد علي، بينما فضّلت بريطانيا والنمسا وروسيا بقاء سلطانٍ عثمانيٍ ضعيف. فوجود حاكمٍ قوي (محمد علي باشا) يؤدّي إلى صراعٍ مؤكّدٍ مع السلطان العثماني، وهذا الصراع ربما يتمخّض عن نتائجٍ غير مُرضيةٍ للدول الأوروبية، وقد يعرّض مسألة التوازن الأوروبي المزعومة للخطر، ويجعل مسألة تقسيم ممتلكات السلطنة العثمانية مسألةً مُلحّةً في وقتٍ غير مناسب.
لم يكن المستشار النمساوي مترنيخ في موقفه أقل عدوانيةً من بالمرستون أو قيصر روسيا، فقد تقدّم باقتراحٍ يتضمّن إعلان الدول الأوروبية حمايتها للسلطان وحرصها على وحدة أراضيه، وضمان هذا الإعلان باجتماع أساطيلها في البحر الأبيض المتوسّط والقيام بعملٍ عسكريٍ مشتركٍ ضد أسطول محمد علي، ومحاصرة شواطئه إذا لزم الأمر؛ وكان الأسطول الروسي أحد الأساطيل الأوروبية المعنية بإعلان مترنيخ، الأمر الذي انسجم مع رغبة بالمرستون في إدخال الأسطول الروسي إلى حظيرة الأساطيل الأوروبية بغية منعه من القيام بأي عملٍ منفرد، الأمر الذي يؤدّي إلى تقييد حركته وأسرها ضمن الإطار السياسي الأوروبي.
غير أن بالمرستون تظاهر بعدم قبوله لهذا الإعلان ما لم تقبل به فرنسا، راميًا بذلك إلى حملها على الموافقة ووضعها تحت هيمنته، أو تحميلها تبعة رفضه تمهيدًا لعزلها؛ لكن فرنسا استساغت هذا الإعلان وقبلت به، خاصةً وأن رئيس وزرائها المارشال سولت كان قد هدّد محمد علي قائلًا: إن هذه الدول (والمقصود الدول الأوروبية)، لا يمكنها أن تسمح بتسوية أوضاع الشرق بمعزلٍ عنها، لأن لها فيه مصالحَ عديدةً ومتشعّبةً، ولأنها تأبى أن تتمّ تسويةٌ يكون فيها أقلّ مساسٍ باستقلال الباب العالي وسلامة ممتلكاته، أو بحقوق العرش العثماني.
وسرعان ما اتّفقت الدول الأوروبية على سياسةٍ موحّدةٍ مُنطلقةٍ من الاعتبارات التالية:
1- إقرارها بوحدة الإمبراطورية العثمانية، والحفاظ على وحدة أراضيها، لا من أجل حمايتها بل انتظارًا للفُرص المناسبة التي تُمكّنها من اقتسامها.
2- إقرارها بضرورة تقليم أظافر محمد علي، وجعله عاجزًا عن فرض إرادته، ومنعه من اتخاذ أي إجراءٍ يمسّ بمصالحها في المنطقة.
3- اتّفاقها على فرضيّةٍ واحدةٍ مضمونها النهب الاستعماري لخيرات العالم.
مما جعل هذه الدول تقف متحدةً مع السلطان، لأن مصالحها المختلفة في المنطقة تفرض ذلك وتحتّم عليها إبقاء الصراع مستمرًا بالشكل الذي يناسبها.
لاحقًا، اعتلى خسرو باشا، العدو التقليدي لمحمد علي، مركز الصدارة العظمى بعد وفاة السلطان محمود الثاني، فبدأ عمله بمخاطبة محمد علي لحل الأزمة المتفاقمة، ولكن الأخير كان بحاجةٍ إلى اعتراف الدول الأوروبية وعفوها عنه، لا إلى عفو السلطان، ما لم يحصل على حكم بلاد الشام. فوجّه على إثر رسالة خسرو باشا رسالتين، الأولى للسلطان والثانية لخسرو باشا، ضمّنهما رغبته باستقالة الأخير أو إقالته، مؤكّدًا تبعيّته للسلطان، وزاد في تصلّبه على إثر مجيء فوزي باشا على رأس أسطوله إلى مصر، ما جعل السلطان يرتعد خوفًا لخسارة أسطوله ويهتمّ لأمر المفاوضات الثنائية وإنهاء الصراع مع محمد علي.
سارت الأمور بشكلٍ حسن بعد موافقة السلطان على مسألة الوراثة وحكم بلاد الشام، وكادت معالم الحل أن تتحدّد بوضوحٍ بين الطرفين، لولا أن الدول الأوروبية التي كانت تراقب عن كثبٍ تطورات الأحداث قد هالها أن ترى نهاية الصراع، لا سيما وأن الاتفاق بينهما قد أصبح قاب قوسين.
لمنع الاتّفاق، سارعت الدول الأوروبية للتشاور فيما بينها والقيام بأي عملٍ من شأنه تعطيل سير المحادثات الجارية في مصر، فسعت لدى السلطان لتصليب موقفه في المفاوضات، وطلبت إعادة الأسطول إلى السلطان فورًا.
أصدرت مذكّرةٌ في 27 تموز عام 1839، وتلقّى السفراء الموقّعون عليها تعليماتٍ من حكوماتهم صباح اليوم، بأن يتشرّفوا بإعلام الباب العالي أن الدول الخمس الكبرى قد اتّفقت فيما بينها على شؤون الشرق، وأن يطلبوا وقف مفعول كل ما يمكن أن يكون قد وُضع وقُرّر بدون علمها، وأن ينتظر نتيجة اهتمامها بمصالحها.
سعت الدول الأوروبية منذ البداية إلى تحريك هذا الصراع، طالما لم يكن يشكّل خطرًا على مصالحها، واستمرّت إلى النهاية حريصةً على بقاء مجراه سائرًا وفق رغباتها، إلى أن أحبطت بهذه المذكّرة آمال محمد علي في الوصول إلى حلٍّ مع السلطان وتثبيت حكمه في بلاد الشام؛ فقد جاءت هذه المذكرة لتفتح صفحةً جديدةً في تاريخ المنطقة وتاريخ السياسة الدولية، في المشرق العربي خاصةً والولايات العربية الأخرى عامة. واضطر محمد علي في نهاية الأمر للاستسلام، وتسليم الأسطول العثماني للسلطان، والانسحاب من بلاد الشام، مقابل منح حكم مصر له ولأولاده من بعده.
* من كتاب "سورية والصراعات الدولية ١٨٣١ - ١٨٤٠: محمد علي والحسابات الخاطئة"، للمؤلف د.فندي أبو فخر
2019.09.25
---------------
(*) نبيل الحموي: كاتب من سوريا
الزيارات: 459