ميسلون - المراسل الحربي ربيع ديبة
تدمر ... وانتصرت قوة الحضارة
قطعان الخراف على الطريق الممتد بطول (165) كم من حمص الى مدينة تدمر في عمق البادية السورية أشعرتني وكأن المنطقة لم تدخل الحرب ، لكن مع بداية انحسار المنطقة الزراعية ودخول البادية السورية ، طالعتني ألسنة لهب حقول الغاز والنفط ، وعلى طول هذا الطريق انتابتني مشاعر الحيرة ، تساءلت في نفسي هل أنا ذاهب لأوثق معركة استعادة الجيش لتدمر، أم ذاهب لأبكي على أطلال مدينة "زنوبيا " عروس الإنسانية !!
يقاطع حيرتي الضباط السوري الثلاثيني المرافق لي بكلماته " حلوة يا أستاذ فيروز عالصبح ... " كلمات جعلتني أرتشف قهوتي وأغيب في مشهد طفولي ، قفز الى ذاكرتي حين أحيت فيروز على المسرح الأثري في تدمر حفلة العمر ، كما وصفتُها ذات يوم ، وكيف مجّد "الرحابنة" بصوتها مسرحية "صرخة زنوبيا" التي تهادت كلماتها الى أذني حين نادت فيروز " بآخر الآخر وبسهول الزمان بتنكسر روما وبتنتصر تدمر ... تدمر الحرية .. تدمر الصرخة اللي بقلب الإنسان " .
ساعة من الزمن وانتصف الطريق الى تدمر عند مطار "التياس" أو (T4 ) العسكري . ساعة كانت كافية لاستيعاب هول الحدث الذي ينتظرني ، فقد عاد عمل الجزء العسكري في عقلي ، وعادت عيناي لترصد أصغر التفاصيل العسكرية .
عند حاجز المطار وقفنا لنشهد مرور قافلة عربات عسكرية روسية عائدة الى المطار من تدمر ، حيث يظهر راس السائق الأشقر ليستوقفني مشهد قد لا يصدقه أحد ممن يريدون الحصول على معلومة عن حجم القوات الروسية ، وعديدها وأسرارها في سورية ، فعبوات المياه الملفوفة بقطعة "خيش" معلقة على مرآة احدى العربات الروسية ، استوقفتني واضحكتني ، وعادت بي إلى شوارع دمشق حيث يعلق سائقو "تكسي" الأجرة مثل هذه العبوات لتحفظ المياه باردة نتيجة ارتطام الهواء فيها عند تسارع السيارة .
تابعنا المسير وصولا إلى منطقة مثلث تدمر، عند مشارف المدينة ، حيث يتوزع عناصر الجيش وحشود الآليات في دلالة على اقتراب ساعة الصفر، نزلنا من السيارة يفصلنا عن الموت خطوة واحدة ، حيث أسرع أحد الجنود محذرا من مغبة خروجنا عن الطريق ، لم نكمل الربع ساعة الأولى من عملنا حتى قطعها انفجار على بعد خمسين مترا ، لتتطاير أشلاء أحد الجنود ومع إنكشاف الدخان الناتج عن التفجير ومحاولة الجنود اسعاف زميل الجندي الشهيد تظهر حفرة على جانب الطريق بعمق نصف متر، لتدل على نوعية التفجير. فقد كانت عبوة ناسفة زرعها الارهابيون تحت شاخصة مكتوب عليها " تدمر ترحب بكم " وهنا اصابتنا "فوبيا" العبوات الداعشية ، وتعلمت الدرس الأول في هذه المعركة التي قد تختلف عما قمت بتغطيته من معارك في حرب المدن ، يقول الضابط السوري : " لا تكثر من السوائل والطعام ففي هذه الصحراء لا مكان لقضاء حاجتك سوى على الطريق وأمام أعين الناس " .
مع ارتفاع وتيرة العملية العسكرية والاستهدافات النارية ، بدأت تحركنا الأمور حسب ما خطط له الجيش العربي السوري ، فحسب المعطيات تكون الأهمية بالسيطرة على سلسلة الجبال التدمرية قبل دخول المدينة ، وهنا بدأ القائد العسكري كلماته لجنده مشيرا بيده الى احدى التلال" لا أريد لاحد أن يتهور نسورنا والاصدقاء الروس يقومون بالتمهيد الجوي ، وبعد ذلك تقومون بالاقتحام " .
لأول مرة في تاريخ الحرب السورية أرصد كل هذه الحشود العسكرية ، وأرصد بارتياح العمل المنظم والدقيق ، حيث يدخل سلاح الجو ويرجم بعده سلاح المدفعية ، والصواريخ وبعدها تتقدم وحدات المشاة التي تقدمنا معها خلال يومين من العمل العسكري .
عشرات المواقف استوقفتني ، فمثلا سمعت عن مجموعة "عليشة " التابعة لقوات صقور الصحراء - احد الفصائل الشعبية الرديفة للجيش - وبالفعل وجدت هذا الرجل الكهل عند منطقة القبور البرجية ، كان يجلس على الطريق العام ، يتفيأ بظلال دراجته النارية ، ألقيت التحية عليه وبادرني فورا بكلمات تفضي ما بقلبه : " يا أخي صورونا انتم اعلام والله انا ومجموعتي الختايرة دوخت الدواعش سمعت عن معركة جبل الهيال ؟؟" ليستطرد بعدها في حديثه قبل أن أُجيبه " نحنا الختايرة طلعنا أول شي على جبل الهيال وأنا أول واحد بالعالم فتت على قصر موزة مرتو لحمد " حيث احتفى عشرات الجنود بالنصر على ابواب قصر موزة ، زوجة امير قطر السابق حمد بن خليفة ال ثاني ، وهو يقع في الجهة الغربية الجنوبية لتدمر ، وتم تحريره قبل يومين من اكمال السيطرة على المدينة ، وهنا تظهر النقمة على أمير قطر السابق وزوجته ، الذين تورطا بشكل مباشر -على حد وصف معظم الجنود الذين قابلتهم - بدماء الشعب السوري .
في هذا اليوم لم ينم المقاتلون حتى الصباح ، فقد حدث هجوم معاكس لتنظيم "داعش " على المنطقة المحيطة بالقصر، وفي فجر اليوم التالي بدأت معركة تحرير قلعة "فخر الدين المعني الثاني" ، حيث تقع في الجهة الشمالية للمدينة ، رافقت عناصر الجيش العربي السوري المقتحمين للقلعة ، كانت المقاومة عنيفة جدا ، حيث استفاد عناصر داعش من فتحات اطلاق السهام الأثرية لقنص وتعطيل تقدم المشاة ، وهنا سالت دماء عناصر الجيش على مشارف القلعة ، لكن اقتراب الجيش من تطويق القلعة من ثلاث جهات دفع عناصر التنظيم الإرهابي للانسحاب قبل فوات الاوان .
بدا الطريق طويلا إلى بوابة القلعة المشرفة بارتفاع (170) مترا عن المدينة بشقيها الاثري والحضري ، لكن عناصر الجيش كانو يملؤون المكان ، مُفترشين الأرض في استراحة محارب ، منهم من أشعل النار لإحتساء الشاي أو مشروب "المتّة" المحلي ، ومنهم من كان يخلع أحذيته لينظفها من التراب ، ومنهم من ركض خلفي ليضيّفني كأس شاي متسائلا : " هل تقرف ؟؟ كل العساكر شربوا من الكاسة نفسها بس صدقني انها اطيب كاسه بالعالم بعد النصر " وبالفعل كان احلى كأس شاي قد شربته بعد النصر .
يقاطع نصر القلعة فجأة رشقة من قذائف الهاون ، ترامت في محيطنا ، دخل الخوف قلبي وبدده فورا عدم تأثر رجال الجيش وكلهم ينادون " عادية جدا نحنا من هذه الجهة المحمية بجدار ترابي لا تطالنا القذيفة فقط شظايا خفيفية " عادي جدا أن ترى جرحى في أرض المعركة ، فهناك من كان يمشي بجانبي وطلقة قناصة اخترقت فخذه ، وآثار الدماء على سرواله ، يلتف الي ويضحك متابعا مشيته "المتهدجة" وكأن شيئا لم يحدث ، خجلت أن أسأله السؤال التقليدي لأي صحفي أو مراسل ، وأن أستجدي منه كلمات تكتب في تقاريري الصحفية من باب رفع المعنويات . لكن الرجل ذو الاربعة عقود تسارع بمشيته ، ومضى باتجاه القلعة فما أكثر هؤلاء الرجال اللذين كسرتهم رصاصة أو شظية وأكملوا الطريق ...طريق النصر .
مع لحظات فجر اليوم التالي كنت أُجري لقاءا مع أبو أحمد الرجل التدمري القادم مع الجيش لتحرير مدينته ، حين أتى أحد الجنود مبشرا من بعيد بتحرير المدينة يومها ، لن أنسى كلمات أبو أحمد الرجل الكهل ، حين قال : "صباح النصر مع زنوبيا " ، كان على ابواب المدينة فقد كنت أحاذر خطواتي وقلبي يرتجف .... فهنا بقايا "معبدي بل وبعل شمين" . وهنا زرع ارهابيو داعش الموت في عبوة خلف كل حجر وهنا أخاف أن يصدمني الواقع هل اندثرت حضارة تدمر على ايدي "داعش" .!
كنت أمشي وأمشي بلهفة الموجوع ، في شارع الجمهورية المؤدي الى المدينة الأثرية ، وتتردد في أُذني صراخات أطفال ذُبحوا على طريقة الشرعية الوهابية ، وأبطال نُحروا على المسرح الأثري تحت راية سوداء ، أمشي وحولي أصوات فرح وبهجة وجنود يحتفلون بالنصر المؤزر ، وأمشي وأمشي .... وكأن شيئا لا يعنيني سوى الأيقونة البعيدة واقتربت أكثر وأكثر لتظهر معالم الايقونة ... الحمد لله لم تندثر الحضارة ،كنت أردد في عقلي حينها كلمات "زنوبيا" الأبدية مخاطبة قيصر روما ، حين غزى المدينة ودمرها "اعلم يا اورليان إن قوة الحضارة ستهزم حضارة القوة .. ! "
الزيارات: 3341