"ميسلون" - لزرق الحاج علي- الجزائر/ وائل إدريس - ليبيا
أثار إعلان حدوث انقلاب في زمبابوي على الرئيس روبرت موغابي حالة من الشد والترقب لدى غالبية وسائل الإعلام كما لدى المتتبعين، فطبيعة الحدث ما كانت لتمر مرور الكرام لو لم يكن الرئيس المستهدف هذه المرة هو روبرت موغابي وليس غيره، فموغابي قامة وطنية في زمبابوي وفي كل دول العالم الثالث التي عرفت نضالا تحرريا ضد الاستعمار، موغابي من جيل الثوار الذين ساهموا في تحرير البلد من الاستعمار البريطاني على المستوى المحلي، وأحد قيادات ومؤسسي الإتحاد الإفريقي، و كل ما لحق ذلك من مبادرات بين الدول الإفريقية، يستوي في ذلك المبادرات الاقتصادية و السياسية.
مهما حاول القائمون بالإنقلاب تبرئة أنفسهم بنفي التعرض لموغابي فإن ذلك لن يشفع لهم ، فالانقلاب الذي طرب له المستوطنون البيض والحكومات الغربية مهما كان هو يمس نهجا قاده موغابي و صار رمزا له مهما تغير ما حوله منذ اليوم الذي سجن فيه أول مرة لمدة عشر اعوام ( 1964 - 1974 ) بسبب نشاطه المناهض للعنصرية، ومنذ بدايات نضاله في وسط حركة زانو بالشكل الذي يكون فيه المستهدف هو كسر تمتع المواطن في زيمبابوي بخيراته، بخدماته الاجتماعية التي حارب من أجلها موغابي ضد الاستعمار البريطاني وضد منظومة الهيمنة الإمبريالية الجديدة.
لم يكن النضال من أجل الاستقلال و ما بعده ضد العنصرية مقطوعا عن السياق الإفريقي وخصوصا ما حدث في جنوب إفريقيا ، فموغابي الذي أنتقد مانديلا في سعيه للحفاظ على مصالح البيض الاقتصادية في جنوب إفريقيا وإفراغ مسألة مناهضة العنصرية من مضمونها واعتبارها مسألة سياسية بحتة، تنتهي لمجرد منح المزيد من الحقوق السياسية كحق الانتخاب والترشح لحلها كليا، الأمر الذي أثبتته الأيام أن في جنوب إفريقيا لا زال البيض هم أصحاب النفوذ الاقتصادي والزراعي بالأخص وبالتالي بقي الأثر موجود سياسياً بينما حلت زيمبابوي المشكلة جذريا بشقيها السياسي و الاجتماعي والاقتصادي.
ما حدث في زيمبابوي هو تدبير أوروبي/ أمريكي لا جدال في ذلك، مهما أصدروا من بيانات لتحذير رعاياهم، ومهما أدعوا أن الوضع لا يزال غير واضح هناك ، ومهما سفهوا وسطحوا ما يحدث عن طريق وسائل إعلامهم ومن تبعهم من إعلامنا العربي بإرجاع الخلاف لضغط زوجة موغابي عليه لكي يقيل نائبه إمرسون منانغاغوا التي في خلاف معه مما يحيلنا إلى تفسيرات جوفاء لا تساوي حتى الحبر الذي كتبت به، فمنانغاغوا اليوم ( بتسهيل كامل من عناصر داخل الحزب الحاكم الذين يبدو أنهم ركبوا موجة الانقلاب العسكري ) أصبح هو المرشح الأقوى ليصعد لسدة الحكم لكن وحدها الأيام كفيلة بأن توضح ما هو الثمن الذي دفعه والذي لن يكون سوى على حساب قوت المواطن في بلده ولمصلحة من كان يزعجهم موغابي ونهجه.
الموضوع يمتد في التاريخ من الساعة التي عزم فيها موغابي على إفتكاك امتيازات الرجل الأبيض وأراضيه لصالح المواطن الزمبابوي برنامج الإصلاح الزراعي الذي دام أكثر من عشر سنوات تمكن من خلاله بحزم من الحد من امتلاك البيض للأراضي الزراعية وذلك إقتداءا بالتجارب في الجزائر للتسيير الذاتي للأراضي الزراعية التي طرد منها المعمرون الفرنسيون، وكما حدث في ليبيا عقب إجلاء المستوطنين الإيطاليين ومن كانوا يسيطرون على الأراضي الزراعية الليبية ، وكذلك كان سعي موغابي وحزبه لإفتكاك الأراضي الزراعية التي كان يسيطر عليها البيض لصالح الفلاحين المحليين وهو الأمر الذي نجح فيه رغم ما تعرض له من ضغوطات وحصار، بدأ منذ عام 1998 عندما تم إيقاف كل القروض عن زمبابوي حتى تلك التي بدأت في تسيير المشروعات، مما أدی إلی إيقاف عجلة الاقتصاد كليا وافتعال أزمة وقود، كانت الممكن أن تساهم في الإطاحة به بعد عزله كليا ، أما من الجانب التعليمي لا تزال زمبابوي واحدة من أفضل الدول الإفريقية من ناحية نسبة التعليم إذ لا تتجاوز نسبة الأمية في البلاد ال10%.
موغابي لم يكن رجل التحرر داخل بلاده فقط فمواقفه المعروفة في أروقة الأمم المتحدة منذ بداية نضاله ضد العنصرية وتبني كل المبادرات للوحدة الإفريقية وتعزيز التضامن بين الدول الإفريقية إلى غاية مواقفه الحاسمة خصوصا من التدخل الغربي لليبيا، فكان لا يترك فرصة للتعبير عن رفضه لما يحدث واصفا إياه صراحة بالاستعمار الغربي لنهب مقدرات ليبيا النفطية والغازية،على غرار تنديده بكل مكان وطئته قدم قدم المستعمر الغربي عليه.
علاقة زيمبابوي في عهد موغابي مع ليبيا أكبر من أن تحصرها السطور فمنذ السبعينات كانت ليبيا داعمة للكثير من حركات التحرر في العالم الثالث، علی رأسها حركة التحرر في زمبابوي والتي شهدت استقبال آلاف المقاتلين داخل معسكرات التدريب العسكرية.
قدم العقيد القذافي كل الإمكانيات لقيادات التحرر وكان داعما لانضمام الجيش لمعركة الاستقلال عام 1980. الكثير من القيادات العسكرية اليوم في حكومة زمبابوي كانت قد تلقت تدريبها العسكري في ليبيا.
بعد أن أطلق روبرت موغابي مشروع الإصلاح الزراعي في عام 2000 القاضي بتصفية مزارع الأقلية البيضاء من بينها مزرعة الرئيس السابق لحكومة روديسيا العنصرية إيان سميث، قام العقيد القذافي الذي يساند مشروع الإصلاح الزراعي بزيارة زيمبابوي في يوليو 2001 بعد قمة منظمة الوحدة الإفريقية التي عقدت في العاصمة الزامبية لوساكا وكرست تحول منظمة الوحدة الإفريقية إلى الإتحاد الإفريقي، وكان الإصلاح الزراعي في قلب أعمال العنف السياسية التي تشهدها زيمبابوي آنذاك.
كانت تواجه زمبابوي في حينها تأثيرات هذا المشروع ، حيث تبدل اليد العاملة يحتاج لوقت حتى تنهض الزراعة من جديد باليد المحلية، وهذا أدی إلی زيادة الخناق عليها، خصوصاً من حيث مصادر الطاقة التي لم تستطع الحصول عليها بعد توقف كل الدول عن إمدادها بالوقود، فلجأ موغابي للعقيد القذافي.
في الأول من سبتمبر 2001 كان القذافي يلقي خطابا بمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين للثورة الليبية في حضور الرئيس موغابي داعياً فيه مواطنيه إلى مواصلة دعم رئيس زيمبابوي حتى يتمكن من تطبيق خطة الإصلاح الزراعي. وقال العقيد القذافي حينها "عليكم أن تستمروا في دعم البطل موغابي لأن زيمبابوي بلد إستراتيجي ومهم بالنسبة لأفريقيا". كما طالب القذافي بإمداد زيمبابوي بالنفط وتسهيل أي شكل من إشكال المساعدة لهذا البلد.
بعد ثلاثة أشهر كان العقيد الليبي في استقبال الرئيس موغابي ووزراء حكومته من أجل التوقيع علی اتفاق إمداد حكومته بالوقود الليبي، مما جعل مشروع الإصلاح الزراعي يقف علی قدميه وبداية من عام 2002، تلقت زمبابوي نفطا من ليبيا بموجب قرض بقيمة 360 مليون دولار كان من المقرر سداده جزئيا عن طريق توريد المنتجات الزراعية إلى طرابلس أي بالمقايضة وبدون أن تدفع زمبابوي أي قيمة مالية بالعملة الأجنبية ، لكن قبل أن تكتمل فترة العقد انهارت الصفقة في عام 2003 بعد فشل زيمبابوى في الوفاء بجانبها من الصفقة. وفي يونيو 2003 زار موغابي ليبيا مرة أخری لتسوية الخلافات القائمة حول عدم التزام حكومته بتوريد المنتجات الزراعية إلی ليبيا، وكان تلك الزيارة تعد حياة أو موت بالنسبة له، حيث إن الضغوطات الاقتصادية الواقعة عليه في حينها فرضت خناقا علی حكومته داخلياً، ولم يكن التنبؤ بنتيجة عدم توفير الوقود لبلاده ، وأنتهت الزيارة باستمرار تدفق الوقود الليبي وإنقاذه داخلياً، مقابل اتفاقيات استثمارية لليبيا داخل زمبابوي، بديلا عن المنتجات الزراعية. وكانت الصفقة النفطية، التي تغطي 70 في المائة من احتياجات زمبابوي من الوقود في ذلك الوقت، قد استمرت لمدة تقل عن سنة عندما انتهت.
في أعقاب تصفية الزعيم الليبي خرج جورج شارامبا المتحدث بإسم الرئيس موغابي مصرحا لوسائل الإعلام ، ومنتقدا بحدة لدور الغرب قائلاً: إنه بالرغم من وجود خلافات بين ليبيا وزمبابوي لكن لا يمكننا قبول رسم الدم كنموذج لتغيير الأنظمة السياسية داخل القارة الأفريقية ، خصوصاً عندما يتم رسم هذا الدم بتحريض من الدول الأجنبية، وأضاف انه رغم الخلافات فإن موغابي يؤكد ان القذافي سيتذكره شعب زمبابوي كثيراً لدعمه حرب الاستقلال في السبعينات.
كان موغابي حانقا جدا علی حكومتي جنوب أفريقيا ونيجيريا بسبب دورهم السيء في إسقاط النظام الليبي ، عندما صوتا لصالح قرار مجلس الأمن 1973 والذي تسبب في قتل المدنيين الليبيين تحت عمليات الناتو ، حيث أنتقد موقف زوما من ليبيا وكيف أنه أخد موقفاً متماشيا مع مصلحة الغرب ، التي أبعد ماتكون عن حماية المدنيين.
موغابي الذي بدأ أولى خطواته الفعلية تجذرا وصلابة عقب إعلان انشقاقه عن البرجوازية السوداء التي حصلت على الاستقلال ولكن غضت الطرف عن الأرض وتملكها من المستعمرين البيض، اتخذ موقفا بالتحالف مع القرويين الذين خاب أملهم في الحصول على أرضهم وافتكاكها من البيض، الأمر الذي جعلهم يستشعرون بعدم إنجاز الاستقلال الكامل ما لم يتحقق فيه إرجاع الأرض، إلى أن حلت ساعة المواجهة بين موغابي المدعوم من رفاقه من المقاتلين القدامى من أجل الاستقلال إلى جانب القرويين المحرومين من أرضهم، وبين الثلة البرجوازية السوداء الفاسدة التي تحمي مصالح الملاك البيض والتي انتهت بانتصار موغابي ومن معه، حيث تم إفتكاك أكثر من أربعة آلاف مزرعة من المستوطنين البيض ليحل في مكانهم أكثر من مئة ألف مزارع، وهنا بدأت فعليا مشاكل الغرب مع موغابي، فهو الذي قام - بدعم وتحالف صريح مع القرويين والمقاتلين القدماء المتشبعين بالقيم القومية واليسارية – بقلب الطاولة على البرجوازية "المتكرشة" التي تضمن المصالح الغربية ورعاياها في زيمبابوي، قام من خلالها بحرمانهم من مزاياهم المنهوبة في البلد، لذلك يبدو من السذاجة وحسن النية في واقع لا يخلو من مصالح النهب، الالتفات إلى الخطاب الغربي المضحك حول أن المشكلة مع موغابي هو البقاء في السلطة من عدمه.
الإنقلاب العسكري الذي حدث في زيمبابوي الأيام القليلة الماضية لا يمكن إلا أن يفسر بسحق كل نموذج تحرري تقوده دولة إفريقية، وتركيع كل رئيس يأبى فتح أسواق بلاده لكي تصبح مفرغة استهلاكية لمنتجاتهم، هو بكل تأكيد استمرار لما حدث في ليبيا عقب إسقاط الشهيد معمر القذافي و نهجه، يدخل في منع أي تكامل اقتصادي إفريقي أو عربي أو لاتيني، لا يهم من كان المستهدف "دكتاتورا" أو صاعدا برضا البرجوازية المحلية عن طريق العملية الانتخابية البرجوازية ، فهذه الأمور شكلية جداً في حسابات قوى النهب العالمي، إذ ما تهمهم حقا هي حماية من هو على سدة الحكم لمصالحهم ورضا الشركات النهبية المتعددة الجنسيات عنه أم لا.
2017.11.22
الزيارات: 3027