عدي مدانات(*)
(..الى الشهيد عبد الفتاح تولستان)
لم يكن عريف الصف المدرسي محظوظاً في يوم مناوبته، لم يشعر بأدنى زهو، ولم يمنحه التلاميذ فرصة لذلك، فحين وقف في مقدمة الصف وجد أن الجميع اتخذوا مقاعدهم والتزموا الصمت. أدرك عدم جدوى وقفته، وأسف لمصادفة مناوبته في هذا اليوم المختلف. اتكأ بمرفقه على المنضدة المخصصة للمدرّس، ثم نكس رأسه وغاب في تأمل ضمه إلى الآخرين. انشغل عدد منهم في رسم أشكال هندسية وتلهى عدد آخر بتصفح كتبهم، فيما جنح خيال آخرين نحو عالم مجهول وقاس، لم يتوهموا يوماً الاقتراب منه. كانت تلك الحصة الصباحية الأولى، وأكثر الشغب يكون عادة فيها؛ فلكل طالب حكاية جديدة يقصها أو محاورة يجريها. إلّا أن شيئاً من ذلك لم يحدث اليوم، جمعهم همٌّ واحد، فخلدوا إلى السكون وتفكّروا فيه.
لم يلحظ العريف دخول المدرّس البديل إلّا حين حفَّ به، فقد انسلّ خفيفاً إلى غرفة الدراسة واتجه صوب النافذة، دون أن يلتفت إلى العريف وبقية التلاميذ، ودون أن يلقي التحية المعتادة ويعلن أنه البديل. وقف قبالة النافذة الوحيدة المطلة على الساحة الخارجية، وأخذ العريف مكانه على مقعد الدراسة.
مطر غزير يتساقط في الخارج، وغطى زجاج النافذة غبش كثيف، أخفى رؤية الساحة الخارجية والشجر المبتل. دنا المدرّس من الزجاج أكثر، ورسم خطوطاً لا تشي بشيء. تبادل الطلاب نظرات استغراب وهيبة، ثم شخصوا بأبصارهم نحوه وعلقت أنظارهم بانتظار أن يأتي الفرج من طرفه. ازداد الوضع حيرة ورهبة، خشية أن يأتوا بما يجرّح سكينته، وربما أدركوا أن ما مسّهم مسّه أيضاً.
أنزل المدرّس يده ووضعها في جيبه وقوّس ظهره، وبدا مأخوذاً بفكرة ما، ليس لها علاقة بمادة الدرس على ما بدا. صدر صوت خفيض عن أحد التلاميذ، فتنبه العريف، وأشار إليه أن يهدأ وأن ينتظر قليلاً، فامتثل وعض على شفتيه ندماً. شعر العريف بأهمية دوره في هذه اللحظة الفريدة الكثيرة الغرابة في عمر المدرسة، فنهض من جديد وأخذ مكانه في مقدمة الصف، خشية أن يأتي آخر بحركة قد تمس سكينة المدرّس.
ابتعد المدرّس عن النافذة مقدار خطوتين، واستدار نصف استدارة وواجه التلاميذ، فرفعوا رؤوسهم ونظروا إليه في انتظار ما سيقول، غير أنه ينطق بحرف. ثمة أسّى ملحوظ في عينيه، وكلام منحبس في فمه. وقف العريف وسط دهشة الآخرين، وأشار إلي الآخرين كي يهدؤوا، ثم قال:
- البقية بحياتك أستاذ.
أعاد الجميع جملته، وانفرج همهم قليلاً.
"حياتكم الباقية" قال المدرّس جملته وهو زائغ العينين، ثم أضاف.
- خسرنا واحداً منا، أليس كذلك؟
لم يجب أحد منهم، لم يجدوا الجواب المناسب. حدّقوا فيه واجمين، وتابعوه وهو يجلس على مقعده.
رفع أحد التلاميذ يده مستأذناً الحديث. نظر إليه البقية متسائلين. أبصره المدرّس فأذن له. قال:
- كان أستاذنا عزيزاً علينا.
قال المدرّس وكأنما يتابع حواراً مع نفسه:
- أستغرب كيف صمد كل هذا الوقت.
سعل أحد الطلاب، فشمله غضب الجميع. وقف تلميذ في مؤخرة الصف ليدلي برأي إلّا أن لا المدرّس ولا عريف الصف لحظ وقفته. فيما نطق طالب في الصف الأول وهو جالس في مكانه وقال:
- مات بطلاً.
نهض المدرّس وخطا نحو النافذة، وبدا كما لو أنه انصرف عن الحديث، بيد أنه اتصل بما قال الطالب وتابع.
- الموت لا يعني شيئاً بحد ذاته.مصيرنا جميعاً الموت، ولكن احتمال العذاب هو المعضلة، كيف يحتمل الجسد الإنساني كل هذا العذاب، فلا يسقط ويخر راكعاً طالباً الرأفة؟
ساد صمت لدقائق ما لبث وأن قطعه تلميذ بالقول:
- ربما بسبب إيمانه بقضيته أستاذ.
بدا على الجميع أن لديهم ما يقولونه في هذا الشأن فتعاقبوا بالتصريح بما لديهم:
- إن الذي يسقط ويتخلى عن قضيته ليس رجلاً.
- أستاذنا كان رجلاً بحق.
- لم يكن لديه خيار آخر.
- أنه إنسان ومن يتعرض لحرق أعقاب السجائر وصعق الكهرباء يتألم جسده وحسب.
- عسى أنه لم يتألم كثيراً.
- وهل صرخ من الألم؟
- أستاذنا لا يصرخ.
- "لماذا"؟ سأل الأستاذ؟ ثم أجاب نفسه بنفسه:
- حتى لا يسرهم بصراخه.
وأضاف طالب:
- لأنه يقبل بمصيره أستاذ.
ابتعد المدرّس عن النافذة وواجه التلاميذ، فامسك كل عن التصريح بما لديه وترقبوا ما قد يأتي من جهته. نهض وسار متنقلاً بين الباب والنافذة مرات عدة وسط صمت مهيب، ثم وقف ورفع رأسه صوب السقف وقال:
- أيجب أن يكون خيارنا الموت؟
لم يعلق أحد. أطبق عليهم صمت، قطعه المدرّس بالقول:
- وهل يعقل ذلك؟ هل للبشر مثل هذه القدرة على الاحتمال؟
لم يعقّب أحد، وران صمت جديد ما لبث المدرّس أن قال في خطاب خصّه وحده:
- هذا ما كان يميزه عنّا.هدا ما جعلنا نشعر بهيبته وسطوة قوله.
- "هل كان يدعو إلى الثورة، أستاذ؟" سأل تلميذ وهو يتوجه إلى زملائه بالسؤال إن تجاوز الحد.
أجاب المدرّس:
- لم يفعل ذلك أبداً.
"هل كنتما صديقين أستاذ" سأل آخر.
أجاب بنبرة واهنة:
- نعم، كأي زميلين في مكان عمل واحد.
- وتلتقيان كثيرا سأل تلميذ؟
- "في المدرسة فقط" أجاب المدرّس
"هل كان مختلفاً عنكم؟" سأل آخر.
أجاب:
- لا، كان إنساناً رصيناً وحسن المعشر، وأنتم كيف وجدتموه؟
تكاثرت الأصوات:
- كان يعاملنا بطيبة واحترام.
- أشعرنا أننا رجال.
- عزز ثقتنا بأنفسنا.
- وجهنا نحو طلب المعرفة.
- دفعنا لقراءة الكتب غير المدرسية.
صرنا بفضله أوسع إدراكاً.
- "ألم يستميلكم إلى وجهة نظره في السياسة"؟ سأل المدرّس
لم يجب أحد. نظر بعضهم إلى بعض. وقف تلميذ وقال:
- كان يشرح لنا ما يجعلنا أوفياء لوطننا. هذه رسالته.
قال آخر:
أبي يقول: ولد بعض الناس ومعهم رسالة.
وأردف آخر:
- الإنسان يسعد بسعادة الآخرين، ويشقى بشقائهم.
وآزره آخر:
- إن من يقبل الظلم والجوع لغيره، يقبله لنفسه، والسكوت عن الظلم جريمة.
سأل طالب:
- هل تظن أنه كان يحبنا أستاذ؟ هل شكا من شقاوتنا؟
أجاب:
أنتم تعرفون الجواب:
قُرِع الجرس مؤذناً بانتهاء الحصة وبداية حصة جديدة ولم يتغير الحال، لا لدى التلاميذ، ولا لدى المدرّس. دخل مدرّس آخر، راعه وجوم الصف. اعتذر لزميله وأشار إلى ساعته منبهاً إلى انتهاء وقت حصته. انتبه وحمل كتابه وخرج، وباشر الجديد مهمته.
________________________________________________________________________________________________________________________________
(*) عدي مدانات: محامي وقاص أردني
الزيارات: 3843