علي عامر(*)
وصية لينين الفلسفية
دعا لينين لإقامة قاعدة فلسفية راسخة وصلبة ويرى أنّه ما لم يتحقق ذلك, فإنّ العلم الطبيعي والمذهب المادي, لن يستطيعا الصمود في نضالهما ضد هجمات الأفكار البرجوازية المتلاحقة..."ليس من سبيل إلى تحقيق هذه الغاية, إلّا إذا تجمّع المثقفون والمفكرون والكتّاب, وتضافرت جهودهم للقيام بدراسة جادّة وواعية للجدل الهيجلي, وتفسيره تفسيراً مادياً, ذلك الجدل الذي طبقه ماركس عملياً في كتابه رأس المال, وفي مؤلفاته السياسية والتاريخية".
يكمن الجدل الهيجلي (الديالكتيك) في صلب المنهج الماركسي والماركسي اللينيني, لدرجة أنّ لينين يجزم باستحالة فهم الماركسية فهماً صحيحاً دون استيعاب الجدل الهيجلي, وكما علاقة الجدل الهيجلي بمؤلفات ماركس وإنجلس, كذلك علاقته بمؤلفات لينين ونشاطه الثوري والسياسي.
في كتابه ما العمل, تحت عنوان "عفوية الجماهير ووعي الاشتراكيّة الديمقراطيّة", يقسّم لينين مراحل نمو النضال الجماهيري وصولاً إلى الثورة الإشتراكيّة الديمقراطيّة-أعلى أشكال النضال- إلى ثلاثة مراحل رئيسية, وفي نظرنا, فإنّ هذه مراحل نمو وتطوّر الثورة عند لينين, ما هي إلّا تعبيراً مادياً عن مراحل نمو وتطوّر العقل عند هيجل, أو لنضعها بوضعها السليم, فإنّ مراحل نمو وتطوّر العقل عند هيجل, يمكن استشفافها من مراحل نمو وتطوّر الثورة عند لينين, وهذه المراحل توجد على ثلاثة مستويات, تنبثق من بعضها بفعل تناقضاتها الداخلية, من الأبسط والأدنى, إلى الأعقد والأعلى.
أولاً: الهبّة العفوية- الوعي الحسّي
يصف لينين إضرابات العقد السابع والثامن وحتى إضرابات النصف الأوّل من القرن التاسع عشر في روسيا, بأنّها إضرابات عفويّة. حيث يبدأ الوعي فيها بالاستيقاظ, بعد أنْ يفقد العمّال إيمانهم بثبات الأوضاع وديمومتها, ويؤكد لينين, على أنّ العمّال هنا بدأوا "يحسّوا" ولم يقل "يفهموا" ضرورة المقاومة الجماعية, ويكفّوا بحزم عن الخنوع والذل لأصحاب الأمر والنهي, فظهر استيقاظ الوعي البدائي, على شكل مشاغبات بدائية, رافقها تحطيم الماكينات. هذه المرحلة تحمل في جوفها جنين الوعي.
فالنهوض العفوي, هو المرحلة الأولى من مراحل الثورة عند لينين, تماماً كما أنّ الوعي الحسّي هو المرحلة الأولى من مراحل الوعي عند هيجل, تمتاز هذه المرحلة البدائية عند هيجل, بالحسيّة والمباشرة, وهي المرحلة التي تسبق "الفهم", لذلك نرى لينين يؤكد في نصّه على أنّ العمال "بدأوا يحسّوا ولا أقل يفهموا", وفي هذه المرحلة, يظهر الواقع أمام الوعي ككتلة واحدة, متعارضة مع الوعي, فالواقع الآن كتلة هلامية, والعقل غير قادر بعد على تمييز عناصر الواقع وفصلها وتحديدها. العقل هنا من حيث بدائيته, يظهر على شكل أعمال شغب, أو "مشاغبات بدائية" بتعبير لينين, وهذه المرحلة من حيث حسيّتها, وفقدها للتجريد, تهاجم الواقع المحسوس المباشر, أي تنتفض ضد المصنع والماكينات والمباني والمنشآت.
ثانياً: النضال النقابي-الوعي الذاتي (الفهم)
يصف لينين إضرابات العقد العاشر, بأنها "ترينا من ومضات الوعي أكثر بكثير: فقد وضعت مطالباً معيّنة, وحسبت مسبقاً اللحظة المناسبة ودرست حوادث وأمثلة معروفة من المناطق الأخرى, إلخ"..."فقد أفصحت هذه الإضرابات, عن بروز التناحر بين العمّال وأصحاب الأعمال, تتصف هذه الإضرابات مقارنة بالمشاغبات البدائية بالوعي "لعظم الخطوة التي خطتها حركة العمّال إلى الأمام في هذه الفترة."
يسمّي لينين هذه المرحلة مرحلة (الوعي التريديوني Trade Union), أي "الاقتناع بضرورة الانتظام في نقابات والنضال ضد أصحاب الأعمال ومطالبة الحكومة بإصدار هذه أو تلك من القوانين الضرورية للعمّال, إلخ", وحسب لينين, فإنّ هذا أقسى ما تحققه الطبقة العاملة من تطوّر في الوعي وفي أشكال النضال, بمحض قواها الذاتية.
يقابل هذه المرحلة اللينينية؛ مرحلة الوعي الذاتي عند هيجل, حيث تبرز أهميّة الفهم -إثر هزيمة المشاغبات البدائية- كقوّة عقليّة جبّارة تنشط في التقسيم والتحديد والفصل والعزل في نظرتها إلى الواقع (الانتظام في نقابات, المطالب المحددة, التخطيط), فذلك الواقع الذي ظهر أمام الحس ككتلة واحدة مبهمة, يظهر أمام الفهم, كمجموعة كبيرة من الأجزاء المتحاذية, التي يعارض ويصارع بعضها بعضاً. القدرة على تحديد الواقع, تتضمن القدرة على تجريده وفهمه, وهذه المرحلة ليست إلّا نمو المرحلة الحسيّة المباشرة بفعل تناقضاتها الداخلية, فالعمّال الذين (شعروا) بدايةً, أنّ مشكلتهم تكمن مع الماكينات, (فهموا) الآن, أنّ خلف هذه الماكينات, يكمن مالكيها, أصحاب وأرباب العمل, ومشكلتهم تكمن مع أولئك الأرباب الذين يراكمون الربح من تعب العمّال, ويعيشون حياةً راغدة هانئة, بينما يعيش العامل حياةً قاسيةً وبائسةً.
تحمل هذه المرحلة في جوفها جنين النضال الإشتراكي.
"ولكنّ العمّال لم يعوا, ولم يكن من الممكن أن يعوا التضاد المستعصي بين مصالحهم وبين كل النظام السياسي والاجتماعي القائم, أي أنّهم لم يحصلوا على الوعي الإشتراكي الديمقراطي."
في هذه المرحلة, تظهر الذات (العمّال) في تناقض صارخ مع الموضوع (الواقع), فالعمّال يدركوا الواقع هنا كنقيض.
ثالثاً: النضال الإشتراكي الديمقراطي- العقل
يعتقد لينين, أنّ العمّال غير قادرين على اكتساب الوعي الإشتراكي الطبقي بمحض قواهم الذاتية, فإنّ أقسى ما سيحققونه على الصعيد النظري, هو مستوى (الفهم), أو النضال النقابي المطلبي, "أي الانتظام في نقابات والنضال ضد أصحاب الأعمال ومطالبة الحكومة بإصدار هذه أو تلك من القوانين للعمّال." فالتعاليم الإشتراكية انبثقت عن النظريّات الفلسفيّة والتاريخيّة والاقتصاديّة التي وضعها المتعلمون والمثقفون من ممثلي الطبقة المالكة, فماركس وانجلس, مؤسسا الإشتراكية العلمية, ينتسبان أيضاً من حيث وضعهما الإجتماعي إلى المثقفين البرجوازيين, بحسب لينين.
"في روسيا, انبثق مذهب الإشتراكية الديمقراطية النظري, بصورة مستقلة تماماً عن النهوض العفوي لحركة العمّال, انبثق بوصفه نتيجة طبيعية محتومة لتطوّر الفكر لدى المثقفين الإشتراكيين الثوريين... في منتصف العقد العاشر, كان هذا المذهب قد جذب إليه أكثرية الشبيبة الثورية في روسيا...هكذا وُجِدَ في وقتٍ واحدٍ, يقظة عفوية لجماهير العمّال (يقظة إلى الحياة الواعية وإلى النضال الواعي), وشبيبة ثورية مسلحة بالنظرية الإشتراكية-الديمقراطيّة, تتحرّق رغبةً في التقرب من العمّال"
بمحاذات نهوض ونمو النضال العمّالي, نمت وتطوّرت النظرية الاشتراكية الديمقراطية في أوساط المثقفين البرجوازين الثوريين بشكلٍ مستقلٍ, وفي تلك اللحظة بالتحديد من نضوج النضال النقابي العمالي, أي نضوج مرحلة الوعي الذاتي (الفهم) عند العمّال, وحين أدرك العمّال حاجتهم لنظرية شاملة, كان التطوّر النظري, عند مثقفي البرجوازية الثوريين, قد بلغ نضجه, وبدأ يدرك حاجته للعمّال لتحقيق نظريته, عند هذه اللحظة بالذات, تندمج النظرية الإشتراكية الديمقراطية مع النضال العمّالي, مُؤَسِسَةً للحزب العمّالي قائد الثورة القادمة.
بعد أن ظهرت الذات (العمّال) في تعارض مع الواقع الموضوعي (مرحلة الوعي الذاتي-الفهم), أدركت الطبقة العاملة الآن, من خلال التركيبة الناتجة عن امتصاصها للنظرية الإشتراكية العلمية, وإلتحاق المثقفين الثوريين البرجوازيين إلى صفوف الطبقة العاملة ونضالها, أنّ هذا الواقع المتعارض مع مصالحها, هو واقعها, هو ملكها, فهي التي أنتجته وتنتجه, وبالتالي تتخطى الفصل التعسفي بينها وبين الواقع, نحو امتلاك هذه الواقع, من خلال امتلاك وسائل الإنتاج, وتقويض الملكية الخاصة.
ففي مرحلة (الفهم), لم تدرك الطبقة العاملة بعد, حقها في امتلاك الواقع, حيث نظرت إليه كواقع مستقل عنها, ولكن الآن, تدركه كحق واستحقاق, وتسعى نحو امتلاكه, من خلال قلب النظام الاقتصادي الاجتماعي ثورياً, كما حدث في الثورة البلشفية.
فمرحلة (العقل) عند هيجل, هي نفي النفي للعبودية, ففي العبودية تدرك الذات نفسها كجزء طبيعي من الواقع, تنفيها مرحلة الفهم, التي تدرك الذات فيها نفسها, في تعارض صارخ مع الواقع, ثم تأتي لحظة نفي النفي, حيث تدرك الذات نفسها, كجزء من الواقع ولكن متميّز عنه في نفس الوقت, وبالتالي لا بد من تخطّي وتجاوز الواقع بامتلاكه.
المرحلة الحسيّة: الذات بنت الواقع.
مرحلة الفهم: الذات خارج الواقع.
مرحلة العقل: الذات أمّ وأب للواقع.
2017.05.16
-------------
(*) علي عامر: كاتب وباحث من فلسطين المحتلة.
المراجع
1- ما العمل؟- لينين.
2- المنهج الجدلي عند هيجل- إمام عبد الفتاح إمام.
الزيارات: 3549