لينا الحسيني(*)
ﻋﻠﻰ ﻣﺘﻦ زﻭﺭﻗﻲ
ﺣﻴﻦ ﻛﻨﺖ ﺃﺭﻗﺺ
ﻭﺳﻂ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻬﺎﺋﺞ
ﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﻫﺪﻳﺮﻩ :
ﺃﻧّﻲ ﺳﺮﻗﺖُ
ﻣﻦ ﺿﻮء ﻋﻴﻨﻴﻚ ﺍﻟﺴّﺎﺣﺮﺗﻴﻦ
ﻧﻈﺮﺓ.
تعال لأتأكد من صدق ما قاله البحر
تعال وانظر إلى قلبي يرتجف
في المرّة القادمة
حين سأعني في زورقي
لن أذهب إلى ذلك البحر الهائج
ولن أخبرك
أين كنت أغني وأبتسم وأرقص
وأحيا..
وأحلم بك..
إنها كلمات "أغنية البحرCanção Do Mar" الأغنية التي كتبها "كارلوس كونشالفيس Carlos conçaveles " وعشق لحنها الكثيرون واشتهرت بصوت المغنية البرتغالية "دولتشي بونتس Dulce Pontes" حتى ولو لم يدركوا معانيها..
عرفت الأغنية في الخمسينيات بصوت ملكة الفادو "أماليا رودريغز Amália Rodrigues" التي تميّزت بحضورها الآسر وصوتها الساحر الذي نقل موسيقى وأغاني الفادو من إطارها المحلي إلى العالمية. عشقت أماليا سالازار وارتبط اسمها بالنّظام وهو السبب الذي سيؤدي إلى حظر أغنياتها فترة ليتبيّن لاحقاً أنّها كانت تقدم العون والمساعدات للمعارضين بسرّية. وتحوّل بيتها في لشبونة، بالقرب من حي "مادراغوا Madragoa" إلى متحف يقصده الباحثون وعشاق الفادو.
في القرن التاسع عشر - وقيل قبل ذلك بكثير- ظهرت موسيقى "الفادو El Fado" (وهو مصطلح برتغالي يعني القدر أو المصير) كلون غنائي يعبّر عن المعاناة الحياتية لفقراء البرتغال والمنبوذين من أبناء الأحياء الشعبيّة. الحب والفقد والخيبة وهموم الطبقة العاملة والهجرة المسكونة برذاذ البحر ومراكب الصيادين ...
هي موضوعات تمحورت حولها أغنيات الفادو الشجيّة ما جعلها تلامس الوجدان الإنساني بكل حالاته لذلك وُصفت بموسيقى الرّوح.
هي مزيج من الإيقاع الزّنجي السّريع ودفء الموسيقى الأندلسيّة والفلامنكو تتولّد من تقاطع إيقاعات آلات التشيللو والجيتار الكلاسيكي والجيتار البرتغالي الذي يختلف عن الجيتار الكلاسيكي بكونه يحتوي على اثني عشر وتراً.
أضواءٌ خافتة ووجهٌ حزين لمغنية تحرّك يديها بخفة تأسر القلوب وعازفون هائمون في عالم من السّحر والشجن.
إنّها أجواء الفادو التي تغرق المستمعين بجوٍ من الإصغاء والتأمل والدّموع، حيث يقاس مقدار نجاح الأمسية وعظمة المغنية بمقدار الدموع التي يذرفها المستمعون تأثراً.
في البدء كانت "إلفادو" حكراً على طبقة المهمشين والفقراء وسمة من سمات الأحياء التي تنتشر فيها الجريمة والدّعارة ثمّ تنامت وتعاظم شأنها في القرن العشرين لتصبح موسيقى الشعب البرتغالي بمختلف أطيافه وطبقاته. هذا التحوّل النّوعي جاء بعد إنتاج فيلم بعنوان "ماريا سيفيراMaria Severa" في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، وكانت قصته تدور حول مغنية غجرية مومس وقع في غرامها أحد الكونتات.
وهكذا بدأت تتبلور هذه الموسيقى في الوعي الشعبي وتُستغل في الإنتاج الرأسمالي سواء من خلال الحفلات أو إنتاج الأفلام، وبعد ذلك بعام تحديداً 1933 تولّى "أنطونيو سالازار António de Oliveira Salazar" السّلطة المطلقة في البلاد، وبدأ أطول عهد ديكتاتوري في تاريخ أوروبا الغربيّة.
حاول سالازار التقليل من شأن الفادو، معتبراً أنّها موسيقى الماضي والحنين والبكاء على الأطلال وأرعبه تأثيرها الكبير في النّفوس لكنّهما لبث أن رضخ لسطوتها الجماهيرية فاعترف نظامه الفاشي الجديد بكونها الموسيقى التي تعبّر عن الرّوح القوميّة للأمة، لكنّه وبالرغم من ذلك أخضعها لرقابة صارمة أفرغتها من قيمتها النضالية التي تلامس شؤون وشجون الطبقة العاملة وحصرها ضمن موضوعات هامشية لجعلها أكثر تناغماً مع سياسة الدولة السّاعية لتلميع صورتها الخارجيّة ولإشاعة فكرة أنّ الفقر المدقع الذي يحياه المواطن البرتغالي لا يمنعه من العيش بسعادة.
ضاق اليساريون، من ضباط وجنود، ذرعاً بنظام أمعن في إفقار الشعب والتّضييق عليه وتوريط البلاد في حروب لا طائل منها لذلك أسّسوا تنظيماً أسموه "حركة القوات المسلحة" كتمهيد للانقلاب.
لعبت موسيقى "الفادو"دوراَ بارزاَ في التّحرر من الظلم والقمع اللذان أغرقا البلاد، حين بثّت الإذاعة أغنية كانت محظورة لسنوات عنوانها "غراندولا، فيلا موريناGrandola, Vila Morena" التي كتبها وغناها "زيكا أفونسو Zeca Afonso" الذي عانى من قمع السلطة، فكانت هذه الأغنية بمثابة كلمة السّر لبدء الانقلاب.
في الخامس والعشرين من نيسان 1974 حصل انقلاب أطاح بديكتاتورية عمّرت أكثر من أربعين عاماً.
فيما يلي كلمات الأغنية :
غراندولا،
المدينة السّمراء
أرض الأخوّة
والشّعب الحاكم
في دواخلك أيّتها المدينة،
يكثر الأصدقاء
وتتساوى الوجوه
وفي ظلّ شجر البلوط
الذي لا يعرف عمره
أقسمت أن أتخذك رفيقتي؛
رهن إرادتك ..
في صبيحة اليوم التّالي للثورة كانت أزهار القرنفل التي زيّنت بها الجماهير أعناق الجنود وفوّهات بنادقهم تملأ الشوارع ومن هنا جاءت تسمية الثّورة بـ "ثورة القرنفل Revolução dos Cravos" .
في 25 سبتمبر 1998 تم تأسس متحف "ألفاما Alfama" في أحد أقدم الأحياء في لشبونة، وهو متخصص بتوثيق التراث الكامل لهذه الموسيقى منذ نشأتها وحتى يومنا هذا. حفرت على جدران المتحف عبارات تتحدّث عن الموت والحياة منها :
"حتى وإن ماتت سنونوة محطمة القلب فإنّ الرّبيع لن ينتهي".
من أشهر من غنى الفادو بالاضافة إلى أماليا رودريغر:
زيكا أفونسو، دولتشي بونتس، كارلوس دو كارمو، ماريزا، وكريستينا برانكو وآخرين.
في 27 نوفمبر من العام 2011 أُدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)موسيقى الفادو في لائحة التراث العالمي باعتبارها تحاكي تاريخ البرتغال ورمراَ من أبرز رموزها.
حالياً تشهد إيقاعات الفادو تطوراً ملحوظا من ناحية عدد العازفين والآلات المستخدمة وموضوعات الأغاني التي بدت مبهجة على عكس الطابع الحزين الذي ميّزها منذ نشأتها.
"آنّا مورا Anna Moura" هي واحدة من مغنيات الفادو التي جعلت هذه الموسيقى تحفل بإيقاعات الطبول الرّاقصة والأجواء الفرحة.
2017.08.22
------------------
(*) لينا الحسيني: كاتبة ومترجمة لبنانية.
الزيارات: 8804